في قلب اليابان، حيث يلتقي التاريخ بالطبيعة، تقع منطقة “كينوغاوا أونسن” في مدينة نيكّو بمحافظة توتشيغي، وهي وجهة سياحية تحولت إلى ما يُشبه مدينة أشباح. كانت هذه البلدة يومًا ما واحدة من أشهر المنتجعات السياحية في البلاد، تشتهر بينابيعها الحارة وفنادقها الفاخرة التي جذبت الآلاف من الزوار خلال الثمانينات. لكن اليوم، تقف هذه الفنادق مهجورة، كأن الزمن توقف عندها منذ عقود، لتصبح لغزًا سياحيًا يجذب المستكشفين ومحبي الأماكن المهجورة.
اكتشاف عالم متجمد في الزمن
في عام 2024، كشف المستكشف الحضري البريطاني لوك برادبيرن، البالغ من العمر 28 عامًا، عن هذا الموقع المذهل أثناء رحلته إلى اليابان. كان هدفه الأساسي توثيق منطقة الحظر في فوكوشيما، لكن فضوله قاده إلى “كينوغاوا أونسن”. هناك، وجد حيًا كاملاً من الفنادق المهجورة التي بدت وكأنها خارجة من فيلم سينمائي. قضى برادبيرن أكثر من ست ساعات يتجول بين حوالي عشرين فندقًا، مستكشفًا ممرات متهالكة، سلالم مكسورة، وردهات مغطاة بالغبار. وصفت صحيفة “نيويورك بوست” المشهد بأنه يثير الرهبة، حيث بدت الأشياء وكأنها تُركت فجأة دون عودة.
لماذا أصبحت مدينة أشباح؟
ازدهرت “كينوغاوا أونسن” في الثمانينات بفضل السياحة المحلية والينابيع الحارة التي جذبت الزوار من جميع أنحاء اليابان. لكن الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد في التسعينات، المعروفة بـ”الفقاعة الاقتصادية”، أثرت بشدة على القطاع السياحي. مع تراجع عدد الزوار، أغلقت الفنادق أبوابها واحدًا تلو الآخر، تاركة وراءها مبانٍ فارغة وذكريات أيام الازدهار.
يُعزى استمرار هذه الفنادق المهجورة دون هدم إلى قوانين يابانية صارمة تمنع إزالة العقارات دون تصريح رسمي من المالك. في كثير من الحالات، يصبح الحصول على هذه التصاريح شبه مستحيل بعد وفاة المالكين أو فقدان الأوراق القانونية. إضافة إلى ذلك، يساهم انخفاض معدل الجريمة في اليابان في الحفاظ على هذه الأماكن دون تخريب كبير، مما يجعلها كبسولات زمنية تحتفظ بتفاصيل الماضي.
مشاهد من عالم آخر
ما يجعل “كينوغاوا أونسن” فريدة هو الحالة التي تُركت عليها الفنادق. في ردهاتها، لا تزال توجد حيوانات محنطة مثل غزال وصقر، تقف صامتة كما لو كانت تحرس المكان. ألعاب الأركيد القديمة لا تزال مليئة بالهدايا، وطاولات الطعام تحمل أكوابًا ومشروبات تُركت منذ عقود. الأعشاب البرية تتسلل عبر النوافذ المكسورة، والطبيعة تستعيد المكان ببطء، مما يخلق تناقضًا ساحرًا بين الحضارة والطبيعة.
تتنقل الكاميرات بين الغرف المتروكة التي تحتوي على أسرّة لم تُمس، ومطابخ مليئة بأدوات الطهي، وحمامات الينابيع الحارة التي كانت يومًا ملاذًا للاسترخاء. هذه المشاهد تجعل الزوار يشعرون وكأنهم يعيشون في حلم غريب، حيث يتوقف الزمن وتتوقف الحياة.
جاذبية السياحة المظلمة
أصبحت “كينوغاوا أونسن” وجهة لعشاق “السياحة المظلمة”، وهي نوع من السياحة يركز على زيارة الأماكن المهجورة أو ذات التاريخ المأساوي. المستكشفون الحضريون، المعروفون باسم “أوربان إكسبلوررز”، يجدون في هذه الفنادق كنزًا من القصص والصور التي تروي تاريخ اليابان الحديث. كما أن الطبيعة الغامضة لهذه الأماكن تجذب المصورين وصانعي الأفلام الذين يبحثون عن مشاهد سينمائية فريدة.
ومع ذلك، يحذر المستكشفون من المخاطر المرتبطة بزيارة هذه المواقع. المباني القديمة غير مستقرة، والسلالم المكسورة والأرضيات المتآكلة قد تشكل خطرًا. بالإضافة إلى ذلك، يُفضل دائمًا احترام القوانين المحلية والحصول على إذن قبل استكشاف مثل هذه الأماكن.
هل تستعيد كينوغاوا أونسن حياتها؟
في السنوات الأخيرة، شهدت اليابان انتعاشًا في السياحة، حيث يتدفق الزوار من جميع أنحاء العالم لاستكشاف جمالها الطبيعي وثقافتها الفريدة. هذا الانتعاش قد يفتح الباب أمام إعادة إحياء مناطق مثل “كينوغاوا أونسن”. بعض المستثمرين الأجانب بدأوا في شراء فنادق في اليابان، مستفيدين من ضعف الين وانخفاض أسعار الفائدة. لكن السؤال يبقى: هل ستُحافظ هذه المنطقة على طابعها الغامض كمدينة أشباح، أم ستتحول إلى وجهة سياحية حديثة؟
خاتمة
“كينوغاوا أونسن” ليست مجرد مجموعة من الفنادق المهجورة؛ إنها شاهد على تحولات اليابان الاقتصادية والاجتماعية. بين جدرانها المتآكلة، تحكي قصص الازدهار والانهيار، والأمل في المستقبل. سواء كنت من عشاق التاريخ، أو المستكشفين الجريئين، أو مجرد فضولي، فإن هذه المدينة الأشباح تقدم تجربة لا تُنسى، تجمع بين الغموض والجمال والحياة التي توقفت فجأة.
Leave a comment