عندما يُذكر اسم غزة في وسائل الإعلام، يتبادر إلى الأذهان مشهد صراع متواصل ومعاناة لا تنتهي. لكن هذه الرقعة الصغيرة الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط والأراضي المحتلة تحمل إرثا حضاريا ضاربا في القدم. عبر آلاف السنين، كانت غزة ملتقى حضارات وجسرا يربط أفريقيا بآسيا، وميناء نشطا قصدته قوافل الشرق الأوسط من الفراعنة إلى العثمانيين.
هذا التنوع الثقافي الغني انعكس في آثار ومعالم روحية وتاريخية جعلت منها وجهة ذات قيمة إنسانية وسياحية فريدة. غير أن الحرب التي اندلعت بعد السابع من أكتوبر 2023 دمّرت جزءا كبيرا من تلك الكنوز، وحوّلت عديدا من المواقع إلى أنقاض، لتخسر غزة والعالم معها قطعة لا تُقدّر من الذاكرة الإنسانية المشتركة.
هكذا تحوّلت “غزة التاريخية” إلى “غزة تحت الركام”، مدينة تنتظر نهاية الحرب كي تعود للحياة، وتستعيد مكانتها كجسر حضاري ووجهة ضائعة تتطلع إلى البعث من جديد.
غزة: مفترق طرق الحضارات
منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، تعاقبت على غزة حضارات متعددة تركت بصماتها العميقة. فقد كان الكنعانيون هم السكان الأصليون الذين تنازعوا السيطرة مع المصريين القدماء، قبل أن تصل إليها الحضارة الإغريقية ثم الرومانية لتزدهر كمدينة تجارية وثقافية مهمة. وفي العصر البيزنطي، أصبحت غزة مركزا مسيحيا بارزا، ثم دخلت مع الفتوحات الإسلامية لتتحول إلى إحدى حواضر الشام الرئيسية. إن كل طبقة من تراب غزة تخفي بين طياتها شواهد لملوك وتجار ومفكرين، مما يجعلها متحفا مفتوحا يمتد تاريخه إلى ما قبل 3000 عام قبل الميلاد.
حضارة تحت الركام
بعد السابع من أكتوبر 2023 لم يقتصر الدمار على المنازل والبنية التحتية، بل شمل ذاكرة غزة الحضارية، إذ أعلنت وزارة السياحة والآثار تضرر 226 موقعا أثريا، لتحول معظم معالمها إلى ضحايا أثرية.
المسجد العمري الكبير
يُعتبر المسجد العمري الكبير من أقدم وأبرز المساجد في فلسطين، إذ يجمع بين القيمة العمرانية والروحية، وقد شهد على تعاقب حضارات امتدت لنحو ألفي عام. شُيّد أولا فوق أنقاض معبد مكرّس للإله داجون، أحد الآلهة الأشورية، ثم تحوّل في الحقبة البيزنطية إلى كنيسة، قبل أن يغدو مسجدا مع دخول العصر الإسلامي
وفي العصر المملوكي أعيد ترميمه ليغدو مركزا دينيا وعلميا يضم مكتبة نادرة تحتوي على مخطوطات ووثائق تعود للقرن الـ13، مما جعله شاهدا على التسامح والتنوع الحضاري. غير أن القصف في دجنبر 2023 دمّر معظم أركانه، وانهارت أجزاؤه التاريخية وبقيت مئذنته المملوكية مائلة ومهشمة، ليتحول هذا المعلم العريق من جامعة علمية وذاكرة عمرانية إلى أطلال متناثرة شاهدة على فقدان تراث إنساني لا يقدر بثمن.
كنيسة القديس برفيريوس
في قلب حي الزيتون بمدينة غزة، تقع كنيسة القديس برفيريوس العائدة للقرن الـ12 الميلادي، وتعد ثالث أقدم كنيسة في العالم ما زالت مستخدمة حتى اليوم. مثلت عبر أكثر من 16 قرنا رمزا مسيحيا وإنسانيا وملاذا للطوائف المسيحية في غزة، لكن القصف في أكتوبر 2023 حولها من مكان للعبادة وملجأ روحي إلى مقبرة جماعية بعدما أودى بحياة عشرات المدنيين الذين احتموا بين جدرانها، ليبقى استهدافها شاهدا على جريمة بحق البشر والحجر وانتهاكا صارخا لحرمة الأماكن المقدسة.
قصر الباشا (حصن نابليون)
مبنى مملوكي عثماني شُيّد في القرن الـ13 بأمر من السلطان بيبرس البندقداري، حاكم مصر المملوكي، ليكون مقرا لحكام غزة، ثم أصبح في ما بعد محطة استراحة لنابليون بونابرت خلال حملته على فلسطين عام 1799. ومع مرور الزمن، تحوّل المبنى إلى متحف أثري يوثق تاريخ المدينة. غير أن القصف الأخير ألحق به دمارا واسعا، فانهارت جدرانه وتحول هذا الصرح، الذي ارتبط اسمه بتاريخ نابليون، إلى ركام يختزل خسارة جديدة للذاكرة العمرانية.
حمام السامرة
يعد أحد أقدم الحمامات العامة في غزة، بني قبل نحو 7 قرون في العصر المملوكي، وكان شاهدا على الحياة الاجتماعية في المدينة ومكانا للاجتماع والاسترخاء وتبادل الأخبار، ليشكل جزءا من نسيجها الاجتماعي الحي. ظل الحمام قائما كآخر حمام تاريخي متبق في غزة حتى دمر القصف سقفه وجدرانه وأرضيته في دجنبر 2023، ولم يبق منه سوى أنقاض شاهدة على ماضيه العريق.
الكنيسة البيزنطية في جباليا
اشتهرت هذه الكنيسة بأرضياتها الفسيفسائية الفريدة التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، والتي عُدّت من أندر الشواهد الفنية في المنطقة. فقد زيّنتها لوحات حجرية مبهرة جسّدت مشاهد وقصصا تاريخية جعلت منها مقصدا للباحثين والسياح من مختلف أنحاء العالم. لكن القصف الأخير ألحق بها دمارا واسعا، فانهارت جدرانها وتعرّضت زخارفها الفسيفسائية للتخريب، لتخسر غزة بذلك أحد أهم معالمها الأثرية والفنية النادرة.
رمزية الدمار ومعناه: محو الذاكرة
إن تدمير المساجد والكنائس والمتاحف في غزة لا يمثل مجرد فقدان لحجارة أو مبان، بل هو محو متعمد لذاكرة الشعوب وقطع لرابط الفلسطيني بأرضه وتاريخه الممتد عبر آلاف السنين. فغزة، التي غالبا ما تظهر إعلاميا كساحة حرب، هي في الحقيقة من أغنى مناطق شرق المتوسط بالتراث الإنساني والحضاري، وسقوط معالمها يفتح سؤالا جوهريا حول كيفية حماية الذاكرة الإنسانية في ظل الحروب والصراعات.
هذا الاستهداف الممنهج الذي وصفته تقارير اليونسكو ومنظمات التراث بأنه شكل من أشكال الإبادة الثقافية، لا يطال البشر وحدهم بل يطال تاريخهم وثقافتهم أيضا، فيكشف وجها مظلما للصراع، حيث يقاوم الإنسان ليس فقط من أجل بقائه الجسدي، بل من أجل الحفاظ على إرث حضاري عميق الجذور وضمان حق الأجيال القادمة في التواصل معه.
المقاومة بالذاكرة
وراء مشاهد الدمار في غزة تتكشف ملامح مقاومة من نوع مختلف، مقاومة لا تعتمد على السلاح بل على التمسك بالذاكرة والهوية. فهناك علماء آثار يجمعون شظايا الفخار المتناثرة، وعائلات تحفظ صور الأجداد أمام المسجد العمري، وشباب يوثقون بالكاميرا ما تبقى من معالم مدينتهم المهدمة.
إنها مقاومة بالذاكرة، وإصرار على أن القذائف لا تستطيع محو تاريخ عميق الجذور. وفي هذا السياق، أشار تقرير مركز الحفاظ على التراث الثقافي، الممول من صندوق التراث الثقافي التابع للمجلس الثقافي البريطاني وبالتعاون مع فريق الآثار المهددة بالانقراض في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بجامعة أوكسفورد، إلى الجهود الكبيرة التي يبذلها العاملون في القطاعين الثقافي والأثري في غزة، رغم الظروف الإنسانية القاسية والإمكانات المحدودة، لحفظ الوثائق والذاكرة المادية والشفهية باعتبارها ركيزة أساسية في صون الهوية الفلسطينية وإعادة إعمار الإرث الثقافي.
البحر المفقود والجمال المنسي
تقع غزة بين البحر والتاريخ، تحمل إرثا حضاريا عريقا وواقعا مثقلا بالركام. شريطها الساحلي المطل على المتوسط الذي كان يوما يحمل مقومات سياحة شاطئية واعدة، غير أن الحصار والنزاع المستمر حولا هذا الجمال إلى منطقة محظورة، في حين ظل ميناء غزة مغلقا منذ عام 1967 ليحرم سكانها والعالم من كنز طبيعي فريد. البحر الذي كان شريانا للحياة والرزق والإلهام تحول إلى شاهد صامت على العزلة، ومع ذلك تبقى ذاكرة غزة وهويتها عصية على الطمس.
غزة، على الرغم من الحصار والدمار، تختزن تحت أنقاضها تاريخا لا يموت وذاكرة حضارية ضاربة في العمق. فالمسجد العمري وكنيسة القديس برفيريوس ومتاحفها المهدمة ليست مجرد مبان، بل شواهد على مسار طويل من التعدد الثقافي والإنساني. كل حجر محطم وكل تحفة مسروقة تمثل دليلا على هوية عصية على الطمس.
غزة التي كانت مقصدا للتجار والحجاج والعلماء عبر العصور، ليست مجرد شريط ساحلي محاصر، بل لوحة إنسانية لا تفقد معناها حتى في أحلك الظروف. ورغم ندوب الركام، فستبقى غزة شاهدة على الصمود، ورمزا لذاكرة لا تنطفئ ووجهة تنتظر الإنقاذ.
المصدر: الجزيرة
Leave a comment